مواقف المبدعين العادلة- بين المنتج الفني والدوافع الشخصية

كثيراً ما أثارت مواقف بعض الفنانين والمبدعين تجاه القضايا العادلة دهشة واستغراب جمهورهم ومحبي فنهم الرفيع، وذلك حينما تبدو هذه المواقف متعارضة مع ما هو متوقع، كانحيازهم إلى النقيض بشكل صريح، أو حتى بفتورها وبرودها الظاهر قياساً بحجم الأحداث الجسام. ولعل القضية الفلسطينية بكل ما تحمله من مآسٍ وتحديات، تصلح لتكون المثال الأبرز والأوضح على هذا الارتباك والذهول لدى المتلقين. ولكن، ما الذي يدفع هؤلاء المبدعين إلى اتخاذ مواقف مناقضة للإبداع الذي عادة ما يناصر الحق والعدل والجمال؟ هناك عدة تفسيرات وإجابات لهذا السؤال، ولكنها تبقى، في نظري، مجرد محاولات جادة واجتهادات شخصية لفهم الدوافع الخفية التي تقود الفنان إلى اتخاذ موقف سلبي أو محايد من القضايا العادلة والإنسانية.
في البداية، يجب علينا أن نفصل بشكل قاطع بين العمل الإبداعي نفسه وبين مبدعه، بين ميل العمل الفني نحو قيم الخير والجمال والسمو الروحي من جهة، وبين المحركات والدوافع النفسية والشخصية لمن يقف خلف هذا العمل من جهة أخرى. إذ أنه من الصعب والجزم القطعي بأن المشاعر التي أيقظتها اللوحة الفنية أو الكتاب الأدبي أو المعزوفة الموسيقية في نفوس المتلقين هي نفسها تماماً التي استشعرها المبدع وهو ينفذ عمله بإتقان. فقد تكون هذه المشاعر مختلفة تماماً، أو قد تكون أقل حدة أو أكثر عمقاً. وهذا يعني أن نوع العاطفة أو مقدارها الذي وصل إلى الجمهور قد يكون متبايناً بصورة أو بأخرى، وبالتالي لا يتفق الجميع بالضرورة في نفس الصفحة من الفهم والإدراك العميق والشعور الصادق.
عادةً لا يكتشف الفنان عمله بصورته النهائية إلا بعد الانتهاء منه بشكل كامل، فهو يجرب ويختبر وفق تصور أولي، ويتنقل بحرية داخل العمل من فكرة إلى أخرى، حتى يستقر في النهاية عند نقطة الاكتمال، وهنا يتحول إلى متلقٍ لعمله، شأنه شأن الجمهور تماماً.
كما أنه من العسير أيضاً أن نجزم بشكل قاطع ما إذا كان المبدع قد امتلك شعوراً سامياً وعميقاً بالأساس وهو ينفذ مادته الإبداعية، ذلك لأن هناك من يتقنون فنهم وصنعتهم الإبداعية دون الحاجة الملحة أو الاضطرار إلى التماهي الكامل معها عاطفياً. بمعنى آخر، يمكن لنص أدبي ما أن يلامس شغاف قلوب القراء ويستحوذ على أرواحهم فقط لأن الكاتب يمتلك المهارة والكفاءة اللازمة لفعل ذلك، وليس بالضرورة لأنه سبقهم إلى تجربة الشعور نفسه. وهنا أجد هذه الفكرة تصطدم بقوة بالفكرة الرومانسية الحالمة التي تتناقلها الألسن والكتابات باستمرار، والتي مفادها أنه "لا يصل إلى القلب إلا ما خرج من القلب". وهنا أستعير اقتباساً من كتاب "مشكلة الفن" للمفكر الدكتور زكريا إبراهيم، حيث يقول: "ألا تدلنا التجربة على أن الفن ليس تعبيراً عن انفعالات الفنان بقدر ما هو براعة خاصة في إثارة مثل هذه الانفعالات لدى الآخرين، عن طريق بعض الوسائل المصطنعة المحكمة.. لقد أوضح لنا الكثير من علماء الجمال أنه ليس يكفي أن يكون الفنان مشبوب العاطفة حتى تكون أعماله الفنية عامرة بالشخصية والأصالة والجدة. فالفن ليس مجرد عاطفة جياشة، بل هو صنعة دقيقة ومهارة فائقة".
ثم إن هناك فكرة أخرى، وإن كانت غير بعيدة عن سابقتها؛ إذ أن المبدع لا يتعرف على عمله في صورته النهائية عادة، إلا بعد الانتهاء منه تماما، فهو يجرب ويختبر وفق تصور مبدئي، ويتنقل بحرية داخله من فكرة لأخرى، حتى يستقر عند الانتهاء، وهنا يغدو متلقياً لعمله أسوة بالجمهور. ومثله تماماً، يتلقى العمل الفني وفق تجاربه وخبراته المتراكمة ومعارفه الواسعة وقيمه الشخصية الراسخة. وبهذا قد يخذله تلقيه في استيعاب ما في العمل من روافع الخير والجمال، فلا تسمو نفسه ويبقى حبيس روحه القاصرة في قيمها ومعتقداتها. خاصة إذا علمنا أن كل واحد منا يمر بمراحل مختلفة في تفاعله مع المنتج الفني؛ فهو يشعر بلذة عقلية عند التعرف على المنتج للمرة الأولى، ثم ينتقل إلى لذة المشاركة الوجدانية العميقة مع مبدع العمل، ويعبر أخيراً إلى لذة التعاطف الإنساني مع الموجودات التي يصورها المبدع ببراعة في عمله. والناس يتفاوتون بشكل كبير في درجة ترقيهم في هذه المراتب، وذلك وفقا لما يمتلكونه داخلهم من مخزون ثقافي وعاطفي وروحي، وليس دائما وفقا لما يستبطنه العمل من قوة محركة دافعة. والمبدع حين يغدو متلقياً ليس استثناءً من كل ذلك.
أخيراً، هناك تفسير آخر لحالة العزوف التي يمر بها المبدع إزاء القضايا العادلة، ألا وهو نفوره الشديد من الانخراط وسط الجموع. إنه يرى نفسه دائماً محركاً للجموع وقائداً لهم، وليس مجرد واحد منهم، فهو صاحب إشارة البدء والمبادر دائماً، وليس متلقيها ومنفذها. ويؤلمه بشدة ألا يبدو مختلفاً ومتميزاً حتى وهو يشترك مع الناس في فكرة نبيلة سامية. لهذا ربما يحاول بعض المبدعين أن يساهموا بفاعلية في حالة التضامن الحاشدة، ولكن بطريقة فريدة تبقيهم خارجها ظاهرياً، مرئيين ومنعزلين بمنتجهم الإبداعي المختلف والمتفرد. وأجدني مضطراً هنا لإيراد فكرة العالم فرويد عن الفنانين، فهو يعتبرهم شخصيات نرجسية، بمعنى أنهم لم يكتمل نضجهم النفسي بشكل كامل، وبقيت لديهم بعض السمات الطفولية!